فصل: باب قَوله تعالى: {مَلِكِ النَّاسِ} (الناس: 2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


كِتَاب التَّوْحِيدِ والرد على الجهمية وغيرهم

باب مَا جَاءَ فِى دُعَاءِ النَّبِيِّ عليه السلام أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أن النَّبِىّ عليه السَّلام بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فقَالَ لَهُ‏:‏ ‏(‏إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِى أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ مُعَاذ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِى مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ‏:‏ أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، أَنَّ رَجُلا سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ‏)‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لأصْحَابِهِ فِى صَلاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ‏:‏ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا، ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏سَلُوهُ لأىِّ شَىْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ‏)‏‏؟‏ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ‏:‏ لأنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أمر الله تعالى نبيه بدعاء العباد إلى دينه وتوحيده ففعل ما ألزمه من ذلك، فبلغ ما أمره بتبليغه وأنزل عليه‏:‏ ‏(‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 54‏]‏، ووجه ذكر حديث قل هو الله أحد فى هذا الباب؛ لأنها سورة تشتمل على توحيد الله وصفاته الواجبة له وعلى نفى ما يستحيل عليه من أنه لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد وتضمنت ترجمة هذا الباب أن الله واحد وأنه ليس بجسم؛ لأن الجسم ليس بشىء واحد بل هو أشياء كثيرة مؤلفة، ففى نفس الترجمة الرد على الجهمية فى قولها أنه تعالى جسم‏.‏

والدليل على استحالة كونه جسمًا أن الجسم موضوع فى اللغة للمؤلف المجتمع، وذلك محال عليه تعالى؛ لأنه لو كان كذلك لم ينفك من الأعراض المتعاقبة عليه الدالة بتعاقبها عليه على حدثها لفناء بعضها عند مجئ أضدادها، وما لم ينفك من المحدثات فمحدث مثلها، وقد قام الدليل على قدمه تعالى، فبطل كونه جسمًا‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏

- فيه‏:‏ جَرِير، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أُسَامَة، جَاءَ النَّبِىِّ، النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِى الْمَوْتِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ‏)‏، فَأَعَادَتِ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِىُّ إِلَيْهِ، وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، كَأَنَّهَا فِى شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ‏.‏

فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ‏)‏‏.‏

غرضه فى هذا الباب إثبات الرحمة وهى صفة من صفات ذاته لا من صفات أفعاله، والرحمن وصف به نفسه تعالى وهو متضمن لمعنى الرحمة كتضمن وصفه لنفسه بأنه عالم وقادر وحى وسميع وبصير ومتكلم ومريد للعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، التى جميعها صفات ذاته لا صفات أفعاله، لقيام الدليل على أنه تعالى لم يزل ولا يزال حيًا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا متكلمًا مريدًا، ومن صفات ذاته الغضب والسخط، والمراد برحمته تعالى إرادته لنفع من سبق فى علمه أنه ينفعه ويثنيه على أعماله، فسماها رحمة، والمراد بغضبه وسخطه إرادته لإضرار من سبق فى علمه إضراره وعقابه على ذنوبه فسماها غضبًا وسخطًا، ووصف نفسه بأنه راحم ورحيم ورحمن وغاضب وساخط بمعنى أنه مريد لما تقدم ذكره‏.‏

وإنما لم يعرف بعض العرب الرحمن من أسماء الله تعالى لأن أسماءه كلها واجب استعمالها ودعاؤه بها سواء؛ لكون كل اسم منها راجعًا إلى ذات واحدة، وهو البارى تعالى وإن دل كل واحد منها على صفة من صفاته تعالى يختص الاسم بالدلالة عليها، وأما الرحمة التى جعلها الله فى قلوب عباده يتراحمون بها فهى من صفات أفعاله، ألا تراه صلى الله عليه وسلم قد وصفها بأن الله خلقها فى قلوب عباده، وجعله لها فى القلوب خلق منه تعالى لها فيها، وهذه الرحمة رقة على المرحوم، والله تعالى أن يوصف بذلك‏.‏

باب قَول تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 58‏]‏

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ تضمن هذا الباب صفتين لله تعالى‏:‏ صفة فعل، وصفة ذات‏.‏

فصفة الفعل ما تضمنه اسمه الذى أجراه تعالى عليه وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّزَّاقُ ‏(‏والصفة الرزق، والرزق فعل من أفعاله لقيام الدليل على استحالة كونه تعالى فيما لم يزل رازقًا، إذ رازق يقتضى مرزوقًا، والبارى تعالى مذ كان ولا مرزوق، فمحال كونه فاعلا للرزق فيما لم يزل، فثبت أن ما لم يكن ثم كان محدث مخلوق، فرزقه إذًا صفة من صفات أفعاله، وأما وصفه بأنه الرزاق فلم يزل البارى واصفًا لنفسه بأنه الرزاق، ومعنى ذلك أنه سيرزق إذا خلق المرزوقين، وأما صفة الذات فالقوة، والقوة والقدرة اسمان مترادفان على معنى واحد، والبارى تعالى لم يزل قادرًا قويًا ذا قدرة وقوة، وإذا كان معنى القوة معنى القدرة، فالقدرة لم تزل موجودة قائمة به موجبة له حكم القادرين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْمَتِينُ ‏(‏‏:‏ الثابت الصحيح الوجود، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أحد أصبر على أذىً سمعه من الله ترك المعاجلة بالنقمة والعقوبة، لا أن الصبر منه معناه كمعناه منا، كما أن رحمته تعالى لمن يرحمه ليس معناها معنى الرحمة منا؛ لأن الرحمة منا رقة وميل طبع إلى نفع المرحوم، والله عز وجل يتعالى عن وصفه بالرقة وميل الطبع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ليس بذى طبع وإنما ذلك من صفات المحدثين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏على أذى سمعه‏)‏ معناه‏:‏ أذى لرسله وأنبيائه والصالحين من عباده لاستحالة تعلق أذى المخلوقين به تعالى؛ لأن الأذى من صفات النقص التى لا تليق بالله إذ الذى يلحقه العجز والتقصير على الانتصار ويصبر جبرًا هو الذى يلحقه الأذى على الحقيقة، والله تعالى لا يصبر خبرًا وإنما يصبر تفضلا، والكناية فى الأذى راجعة إلى الله والمراد بها أنبياؤه ورسله؛ لأنهم جاءوا بالتوحيد لله تعالى ونفى الصاحبة والولد عنه، فتكذيب الكفار لهم فى إضافة الولد له تعالى أذى لهم ورد لما جاءوا به، فلذلك جاز أن يضاف الأذى فى ذلك إلى الله تعالى إنكارًا لمقالتهم وتعظيمًا لها؛ إذ فى تكذيبهم للرسل فى ذلك إلحاد فى صفاته تعالى، ونحوه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 57‏]‏، تأويله الذين يؤذون أولياء الله وأولياء رسوله، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فى الإعراب، والمحذوف مراد، نحو قوله‏:‏ ‏(‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏، يعنى أهل القرية‏.‏

وقد تضمن هذا الباب الرد على من أنكر أن لله صفة ذات هى قدرة وقوة لاعتقادهم أنه قادر بنفسه لا بقدرة، والله تعالى قد نص على أن له قدرة بخلاف ما تعتقد القدرية من أنه قوى بنفسه لا بقوة‏.‏

وفيه‏:‏ رد على المجسمة القائسين للغائب على الشاهد قالوا‏:‏ كما لم نجد قويا ولا ذا قوة فيما بيننا إلا جسمًا كذلك الغائب حكمه حكم الشاهد، فيقال لهم‏:‏ إن كنتم على الشاهد تقولون وعليه تعتمدون فى قياس الغائب عليه، فكذلك لم تجدوا جسمًا إلا ذا أبعاض وأجزاء مؤلفة، فيصح عليه الموت والحياة والعلم والجهل والقدرة والعجز، فاقضوا على أن الغائب حكمه حكم هذا فإن مروا عليه ألحدوا وأبطلوا الحدوث والمحدث، وإن أبوه نقضوا استدلالهم ولا انفكاك لهم من أحد الأمرين‏.‏

ومن هذه الجهة دخل على المعتزلة الخطأ فى قياسهم صفات الله على صفات المخلوقين، والله تعالى لا يشبه المخلوقين؛ لأنه الخالق ولا خالق له وقد أعلمنا الله تعالى بالحكم فى ذلك فقال‏:‏ ‏(‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، فكيف يشبه الخالق بالمخلوق، ومن ليس كمثله شىء كمن له مثل من الأشياء المخلوقة‏؟‏ وهذا ما لا يخفى فساده وإبطاله‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 26‏]‏

وَ‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ‏(‏و‏)‏ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ‏(‏‏)‏ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ ‏(‏‏)‏ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ‏(‏قَالَ يَحْيَى‏:‏ الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا، وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلا اللَّهُ‏:‏ لا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأرْحَامُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِى الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلا اللَّهُ، وَلا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا اللَّهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ، فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏ وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ‏}‏‏.‏

غرضه فى هذا الباب إثبات علم الله تعالى صفة لذاته؛ إذ العلم حقيقة فى كون العالم عالمًا، إذ من المحال كون العالم عالمًا ولا علم له، وكذلك سائر أوصافه المقتضية للصفات التى هى حقيقة فى ثبات الأوصاف المجرأة عليه تعالى من كونه حيًا وقادرًا وما شابه ذلك خلافًا لما تقوله القدرية من أنه عالم قادر حى بنفسه لا بقدرة ولا بعلم ولا بحياة، ثم إذا ثبت كون علمه قديمًا وجب تعلقه بكل معلوم على حقيقته، وقد نص البارى تعالى على إثبات علمه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 166‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏(‏وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 11‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏(‏إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 47‏]‏، فمن دفع علم البارى تعالى الذى هو حقيقة فى كونه عالمًا، وزعم أنه عالم بنفسه لا بعلم فقد رد نصه تعالى على إثبات العلم الذى هو حقيقة فى كونه عالمًا ولا خلاف بين رد نصه على أنه ذو علم وبين نصه على أنه عالم، فالنافى لعلمه كالنافى لكونه عالمًا، واجتمعت الأمة على أن من نفى كونه عالمًا فهو كافر، فينبغى أن يكون من نفى كونه ذا علم كافرًا؛ إذ من نفى أحد الأمرين كمن نفى الآخر، والقول فى العلم بهذا كاف من القول به فى جميع صفاته، وتضمن هذا الباب الرد على هشام بن الحكم ومن قال بقوله من أن علمه تعالى محدث وأنه لا يعلم الشىء قبل وجوده‏.‏

وقد نبه الله تعالى على خلاف هذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏ الآية، وجميع الآيات الواردة بذلك، وأخبرنا النبى صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك فى حديث ابن عمر وعائشة فلا يلتفت إلى من رد نصوص الكتاب والسنة‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏السَّلامُ الْمُؤْمِنُ المهيمن‏}‏

- فيه‏:‏ عَبْدُاللَّهِ، قَالَ‏:‏ كُنَّا نُصَلِّى خَلْفَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَقُولُ‏:‏ السَّلامُ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلامُ، وَلَكِنْ قُولُوا‏:‏ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

غرضه في هذا الباب إثبات اسمًا من أسماء الله، فالسلام اسم من أسمائه، ومعناه‏:‏ السالم من النقائص والآفات الدالة على حدث من وجدت به متضمن لمعنى السلامة من ذلك كله، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 25‏]‏، مختلف فى تأويله فقيل‏:‏ معناه‏:‏ والله يدعو إلى دار السلامة، يعنى‏:‏ الجنة؛ لأنه لا آفة فيها ولا كدر فالسلام على هذا والسلامة بمعنى، كاللذاذ واللذاذة، والرضاع والرضاعة وقيل‏:‏ السلام اسم لله تعالى قال قتادة‏:‏ الله السلام وداره الجنة‏.‏

فأما المؤمن فهو على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون صفة ذات، وهو أن يكون متضمنًا لكلام الله الذى هو تصديقه لنفسه فى أخباره ولرسله فى صحة دعواهم الرسالة عليه، وتصديقه هو قوله، وقوله صفة من صفات ذاته لم يزل موجودًا به حقيقة فى كونه قائلا متكلمًا مؤمنًا مصدقًا‏.‏

والوجه الثانى‏:‏ أن يكون متضمنًا صفة فعل هى أمانة رسله وأوليائه المؤمنين به من عقابه وأليم عذابه من قولك‏:‏ آمنت فلانًا من كذا، وأمنته منه، كأكرمت وكرمت، وأنزلت ونزلت، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وأما المهيمن‏:‏ فهو راجع إلى معنى الحفظ والرعاية، وذلك صفة فعل له تعالى، وأما منعه صلى الله عليه وسلم من القول السلام على الله‏.‏

فقد بين صلى الله عليه وسلم معنى ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏إن الله هو السلام‏)‏ ويستحيل أن يقال السلام على الله؛ لاستحالة القول الله على الله، وعلى قول من جعل السلام بمعنى السلامة يستحيل أيضًا أن يدعو له بالسلامة‏.‏

وقوله‏:‏ قولوا‏:‏ التحيات لله‏.‏‏.‏‏.‏

إلى آخر الحديث فهو صرف منه صلى الله عليه وسلم لهم بما يستحيل الكلام به إلى ما يحسن، ويجمل لما فى ذلك من الإقرار لله بملك كل شىء، وشرع ما شرعه لعباده مما أوجبه عليهم من الصلوات المفروضة، وندبه إليهم من النوافل والتقرب إليه بالدعاء والكلام الطيب الذى وصف تعالى أنه يصعد إليه بقوله‏:‏ ‏(‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

والتحية فى كلام العرب الملك‏.‏

قال الشاعر‏:‏

ولكل ما نال الفتى *** قد نلته إلا التحية

يعنى‏:‏ الملك‏.‏

فمعنى قوله‏:‏ التحيات لله‏:‏ الملك لله‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَلِكِ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الناس‏:‏ 2‏]‏

- فيه‏:‏ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَقْبِضُ اللَّهُ الأرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِى السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَلِكِ النَّاسِ‏}‏ هو داخل فى معنى ما أمرهم به النبى صلى الله عليه وسلم من قولهم‏:‏ التحيات لله‏.‏

يريد‏:‏ الملك لله، وكأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بذلك من حيث أمره الله بالاعتراف بذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد‏:‏ ‏{‏أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ‏}‏ ووصفه تعالى لنفسه أنه ملك الناس على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون راجعًا إلى صفة ذاته وهو القدرة؛ لأن الملك بمعنى القدرة‏.‏

والثانى‏:‏ أن يكون راجعًا إلى صفة فعل وذلك بمعنى‏:‏ القهر والصرف لهم عما يريدونه إلى ما أراده تعالى، فتكون أفعال العباد ملكًا له تعالى لا قدرة لهم عليها‏.‏

وفيه إثبات اليمين لله صفة من صفات ذاته ليست بجارحة خلافًا لما تعتقده الجسمية فى ذلك لاستحالة جواز وصفه بالجوارح والأبعاض، واستحالة كونه جسمًا، وقد تقدم القول فى حل شبههم فى ذلك‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏{‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 180‏]‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ‏}‏ وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ

وَقَالَ أَنَسٌ‏:‏ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَقُولُ جَهَنَّمُ‏:‏ قَطْ، قَطْ، وَعِزَّتِكَ‏)‏‏.‏

وقال أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ‏:‏ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ، لا وَعِزَّتِكَ، لا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا‏)‏‏.‏

وقال أَيُّوبُ‏:‏ وَعِزَّتِكَ لا غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ عليه السلام‏:‏ ‏(‏أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ الَّذِي لا تَمُوتُ، وَالإنْسُ وَالْجِنُّ يَمُوتُونَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يُلْقَى فِى النَّار‏)‏ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 30‏]‏ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فتَقُولُ‏:‏ قَدْ قَدْ، بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلا تَزَالُ الْجَنَّةُ تَفْضُلُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُمْ أفَضْلَ الْجَنَّةِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فالكلام فى هذا الباب على معنى العزيز الحكيم والعزة والحكمة والقدم‏.‏

أحدهما‏:‏ أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة والعظمة‏.‏

والثانى‏:‏ أن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته والغلبة لهم، ولهذا صح إضافته تعالى اسمه إليها فقال‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 180‏]‏، والمربوب مخلوق لا محالة‏.‏

والحكيم متضمن لمعنى الحكمة، وهو على وجهين أيضًا‏:‏ صفة ذات تكون بمعنى العلم، والعلم من صفات ذاته‏.‏

والثانى‏:‏ أن تكون بمعنى الإحكام للفعل والإتقان له، وذلك من صفات الفعل وإحكام الله لمخلوقاته فعل من أفعاله، وليس إحكامه لها شيئًا يزيد على ذواتها؛ بل إحكامه لها جعلها نفسًا وذاتًا ما ذهب إليه أهل السنة إن خلق الشىء وإحكامه هو نفس الشىء، وإلا أدّى القول بأن الإحكام والخلق غير المحكم المخلوق إلى التسلسل إلى ما لا نهاية له، والخروج إلى ما لا نهاية له إلى الوجود مستحيل، فبان الفرق بين الحالف بعزة الله التي هي صفة ذاته، وبين من حلف بعزة الله التي هي صفة فعله أنه حانث فى حلفه بصفة الذات دون صفة الفعل؛ بل هو منهى عن الحلف بصفة الفعل كقول الحالف‏:‏ وحق السماء وحق زيد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان حالفًا فليحلف بالله‏)‏ وقد تضمن كتاب الله العزة التى هى بمعنى القوة، وهو قوله‏:‏ ‏(‏فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 14‏]‏، أى قوينا والعزة التى هى الغلبة والقهر وهو قوله‏:‏ ‏(‏وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 23‏]‏، أى غلبنى وقهرنى‏.‏

وأما القدم فلفظ مشترك يصلح استعماله فى الجارحة وفيما ليس بجارحة فيستحيل وصفه تعالى بالقدم الذى هو الجارحة؛ لأن وصفه بذلك يوجب كونه جسمًا والجسم مؤلف حامل للصفات وأضدادها غير متوهم خلوه منها، وقد بان أن المتضادات لا يصح وجودها معًا، وإذا استحال هذا ثبت وجودها على طريق التعاقب، وعدم بعضها عند مجئ بعض وذلك دليل على حدوثها، وما لا يصح خلوه من الحوادث فواجب كونه محدثًا، فثبت أن المراد بالقدم فى هذا الحديث خلق من خلقه تقدم علمه أنه لا تملأ جهنم إلا به‏.‏

وقال النضر بن شميل‏:‏ القدم هاهنا‏:‏ هم الكفار الذين سبق فى علم الله أنهم من أهل النار وأنه تملأ النار بهم حتى ينزوى بعضها إلى بعض من الملئ لتضايق أهلها فتقول‏:‏ قط قط، أى امتلأت‏.‏

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏، أى سابقة صدق‏.‏

وقال ابن الأعرابى‏:‏ القدم‏:‏ هو التقدم فى الشرف والفضل‏.‏

وقد قد، وقط قط، بمعنى‏:‏ حسبي أي‏:‏ كفاني، ويقال‏:‏ قدني، وقطني بمعنى ذلك، واختلفت الرواية فى قوله‏:‏ فيسكنهم أفضل الجنة، وروى فضل الجنة، فمن روى فضل الجنة فهو أحسن يعنى‏:‏ ما فضل منها وبقى‏.‏

ومن روى أفضل الجنة فمعناه‏:‏ فاضل الجنة‏.‏

وفضل وفاضل الجنة عائدان إلى معنى واحد، وليس بمعنى أفضل من كذا الذى هو بمعنى المفاضلة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏، على أحد التأويلين‏.‏

قال الشاعر‏:‏

لعمرك لا أدرى وإنى لأوجل ***

يريد‏:‏ لوجل‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ‏}‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو مِنَ اللَّيْلِ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، قَوْلُكَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ، وَأَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِى لا إِلَهَ لِى غَيْرُكَ‏)‏‏.‏

وقال سُفْيَان مرة‏:‏ أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 73‏]‏، كقوله‏:‏ خالق السموات والأرض بالحق أى‏:‏ أبدعهما وأنشأهما بالحق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏رب السموات والأرض‏)‏ كقوله‏:‏ خالق السموات والأرض، وأما قوله‏:‏ ‏(‏أنت الحق‏)‏‏.‏

فعلى معنيين‏:‏ يكون اسمًا راجعًا إلى ذاته فقط لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنت الحق‏.‏

أى‏:‏ أنت الموجود الثابت حقًا الذى لا يصح عليك تغيير ولا زوال‏.‏

والمعنى الثانى‏:‏ يكون الحق راجعًا إلى صفة ذاته؛ لقوله‏:‏ خلق السموات والأرض بالحق أى قال لها‏:‏ كونى فكانت‏.‏

وقوله صفة من صفات ذاته عند أهل الحق والسنة على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏أنت نور السموات والأرض‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، فواجب صرفه عن ظاهره لقيام الدليل على أنه لا يجوز أن يوصف بأنه نور، والمعنى‏:‏ أنت منور السموات والأرض بأن خلقتهما دلالة لعبادك على وجودك وربوبيتك بما فيهما من دلائل الحدث المفتقرة إلى محدث فكأنه نور السموات والأرض بالدلائل عليه منهما وجعل فى قلوب الخلائق نورًا يهتدون به إليه، وقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، أى هاديهن، وعنه أيضًا مدبرهما، ومدبر ما فيهما وتقديره‏:‏ الله نور السموات والأرض‏.‏

وأما قيم السموات والأرض، فالكلام فيه من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون بمعنى العالم بمعلوماته، فتكون صفة ذات‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن يكون بمعنى الحفظ لمخلوقاته، والرزق للحى منها، فتكون صفة فعل‏.‏

باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏

وَقَالَتْ عَائِشَةَ‏:‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا‏}‏ الآية ‏[‏المجادلة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، قَالَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ عَلِّمْنِى دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِى صَلاتِى، قَالَ‏:‏ ‏(‏قُلِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِى مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ جِبْرِيلَ نَادَانِى، فَقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ‏)‏‏.‏

غرضه فى هذا الباب أن يرد على من يقول‏:‏ إن معنى سميع بصير‏.‏

معنى عليم لا غير؛ لأن كونه كذلك يوجب مساواته تعالى للأعمى والأصم الذى يعلم أن السماء خضراء ولا يراها، وأن فى العالم أصواتًا ولا يسمعها ولا شك أن من سمع الصوت وعلمه ورأى خضرة السماء وعلمها أدخل فى صفات الكمال ممن انفرد بإحدى هاتين الصفتين، وإذا استحال كونه أحدنا ممن لا آفة به أكمل صفة من خالقه وجب كونه تعالى سميعًا بصيرًا مفيدًا أمرًا زائدًا على ما يفيده كونه عليما‏.‏

ثم نرجع إلى ما تضمنه كونه سميعًا بصيرًا، فنقول‏:‏ هما منضمنتان لسمع وبصر بهما كان سميعًا بصيرًا كما تضمن كونه عالمًا علمًا لأجله كان عالمًا وكما أنه لا خلاف بين إثباته عالمًا وبين إثباته ذا علم، فإن من نفى أحد الأمرين كمن نفى الآخر، وهذا مذهب أهل السنة والحق‏.‏

ومعنى قول عائشة‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذى وسع سمعه الأصوات‏)‏‏.‏

أدرك سمعه الأصوات، لا أنه اتسع سمعه لها؛ لأن الموصوف بالسعة يصح وصفه بالضيق بدلا منه والوصفان جميعًا من صفات الأجسام، وإذا استحال وصفه بما يؤدى إلى القول بكونه جسمًا، وجب صرف قولها عن ظاهره إلى ما اقتضى صحته الدليل، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا‏)‏‏.‏

نفى الآفة المانعة من السمع، ونفى الجهل المانع من العلم وفى هذا القول منه صلى الله عليه وسلم دليل على أنه لم يزل سميعًا بصيرًا عالمًا، ولا تصح أضداد هذه الصفات عليه‏.‏

وقوله‏:‏ قريبًا‏.‏

إخبار عن كونه عالمًا بجميع المعلومات لا يعزب عنه شىء، ولم يرد بوصفه بالقرب قرب المسافة؛ لأن الله تعالى لا يصح وصفه بالحلول فى الأماكن؛ لأن ذلك من صفات الأجسام والدليل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏ الآية معناه‏:‏ إلا هو عالم بهم وبجميع أحوالهم ما يسرُّونه وما يظهرونه، ومعنى حديث أبى بكر فى هذا الباب هو أن دعاءه الله بما علمه النبي عليه السلام يقتضى اعتقاد كونه تعالى سميعا لدعائه ومجازيًا له عليه‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏

- فيه‏:‏ جَابِر، قَالَ‏:‏ كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الاسْتِخَارَةَ فِى الأمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ، وَلا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ، وَلا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

القادر والقدرة من صفات الذات، وقد تقدم فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 58‏]‏، أن القوة والقدرة بمعنى واحد، وكذلك القادر والقوى بمعنى واحد، وذكر الأشعرى أن القدرة والقوة والاستطاعة معناها واحد، لكن لم يشتق لله تعالى من الاستطاعة اسم، ولا يجوز أن يوصف بأنه مستطيع لعدم التوقيف بذلك، وإن كان قد جاء القرآن بالاستطاعة فقال‏:‏ ‏(‏هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 112‏]‏، فإنما هو خبر عنهم ولا يقتضى إثباته صفة له تعالى فدل على ذلك أمران‏:‏ تأنيبه لهم عقيب هذا، وقراءة من قرأ‏:‏ ‏(‏هل تستطيع ربك‏)‏ بمعنى‏:‏ هل تسطيع ربك، وقد أخطئوا فى الأمرين جميعًا لاقتراحهم على نبيهم وخالقه ما لم يأذن لهم فيه ربهم تعالى‏.‏

باب مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ

وَقَوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ مَا يَحْلِفُ‏:‏ لا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ‏)‏‏.‏

قد تقدم الكلام فى هذا الحديث فى كتاب القدر، ومر فيه أن تقليبه لقلوب عباده صرفه لها من إيمان إلى كفر، ومن كفر إلى إيمان وذلك كله مقدور لله تعالى وفعل له، بخلاف قول القدرية‏.‏

باب قول النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ اسْمٍ إِلا وَاحِدًامَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ‏)‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏ذُو الْجَلالِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏ ذو الْعَظَمَةِ‏)‏ الْبَرُّ ‏(‏اللَّطِيفُ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ‏)‏‏.‏‏)‏ أَحْصَيْنَاهُ ‏(‏حَفِظْنَاهُ‏.‏

الإحصاه فى اللغة على وجهين‏:‏ أحدهما بمعنى‏:‏ الإحاطة بعلم عدد الشىء وقدره، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 28‏]‏ وهذا قول الخليل‏.‏

والثانى‏:‏ بمعنى‏:‏ الإطاقة له، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏، أى لن تطيقوه‏.‏

وقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏استقيموا ولن تحصوا‏)‏ أى‏:‏ لن تطيقوا العمل بكل ما لله عليكم، والمعنى فى ذلك كله متقارب، وقد يجوز أن يكون المعنى‏:‏ من أحصاها عددًا وحفظًا وعلمًا بما يمكن علمه من معانيها المستفاد منها علم الصفات التى تفيدها؛ لأن تحت وصفنا له بعالم إثبات علم له تعالى لم يزل موصوفًا به لا كالعلوم، وتحت وصفنا له بقادر إثبات قدرة لم يزل موصوفًا بها لا كقدرة المخلوقين، وكذلك القول فى الحياة وسائر صفاته، وفيه وجه آخر يحتمل أن يكون الإحصاء المراد فى هذا الحديث والله أعلم العمل بالأسماء والتعبد لمن سمى بها‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ كيف وجه إحصائها عملا‏؟‏ قيل له‏:‏ وجه ذلك أن ما كان من أسماء الله تعالى مما يجب على المؤمن الاقتداء بالله تعالى فيه كالرحيم والكريم والعفو والغفور والشكور والتواب وشبهها، فإن الله تعالى يحب أن يرى على عبده حلاها ويرضى له معناها، والاقتداء به تعالى فيها‏.‏

فهذا العمل بهذا النوع من الأسماء وما كان منها مما لا يليق بالعبد معانيها كالله والأحد والقدوس والجبار والمتعال والمتكبر والعظيم والعزيز والقوى وشبهها، فإنه يجب على العبد الإقرار بها والتذلل لها والإشفاق منها، وما كان بمعنى الوعيد كشديد العقاب، وعزيز ذى انتقام وسريع الحساب وشبهها، فإنه يجب على العبد الوقوف عند أمره واجتناب نهيه‏.‏

واستشعار خشية الله تعالى من أجلها خوف وعيده، وشديد عقابه هذا وجه إحصائها عملا فهذا يدخل الجنة إن شاء الله، وأخبرنى بعض أهل العلم عن أبى محمد الأصيلى أنه أشار إلى هذا المعنى غير أنه لم يشرحه فقال‏:‏ الإحصاء لأسمائه تعالى هو العمل بها لا عدّها وحفظها فقط؛ لأنه قد يعدها المنافق والكافر وذلك غير نافع له‏.‏

قال المؤلف‏:‏ والدليل على أن حقيقة الإحصاء والحفظ فى الشريعة إنما هو العمل قوله صلى الله عليه وسلم فى وصف الخوارج‏:‏ ‏(‏يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية‏)‏ فبين أن من قرأ القرآن ولم يعمل به لم ترفع قراءته إلى الله، ولا جازت حنجرته، فلم يكتب له أجرها وخاب من ثوابها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏، يعنى أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله تعالى‏.‏

وكما قال ابن مسعود لرجل‏:‏ إنك فى زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع فيه حروفه، وسيأتى على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده‏.‏

فذم من حفظ الحروف وضيع العمل ولم يقف عند الحدود، ومدح من عمل بمعانى القرآن وإن لم يحفظ الحروف، فدل هذا على أن الحفظ والإحصاء المندوب إليه هو العمل‏.‏

ويوضح هذا أيضًا ما كتب به عمر بن الخطاب إلى عماله‏:‏ إن أهم أموركم عندى الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها دينه‏.‏

ولم يرد عمر بحفظها إلا المبالغة فى إتقان العمل بها من إتمام ركوعها وسجودها وإكمال حدودها لا حفظ أحكامها وتضييع العمل بها، والله الموفق‏.‏

باب السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالاسْتِعَاذَةِ بِهَا

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ فِرَاشَهُ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَلْيَقُلْ‏:‏ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِى، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى، فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ حُذَيْفَةَ، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا وَأَمُوتُ‏)‏، وَإِذَا أَصْبَحَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِىَ أَهْلَهُ، فَقَالَ‏:‏ بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِى ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَدِىّ، سَأَلْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ‏:‏ أُرْسِلُ كِلابِى الْمُعَلَّمَةَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا أَرْسَلْتَ كِلابَكَ الْمُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَأَمْسَكْنَ فَكُلْ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَاهُنَا أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ، يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ، لا نَدْرِى أيَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏اذْكُرُوا أَنْتُمُ اسْمَ اللَّهِ، وَكُلُوا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، ضَحَّى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ يُسَمِّى وَيُكَبِّرُ‏.‏

- وفيه‏:‏ جُنْدَب، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ النَّحْرِ‏:‏ ‏(‏مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ، فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ‏)‏‏.‏

غرضه فى هذا الباب أن يثبت أن الاسم هو المسمى فى الله على ما ذهب إليه أهل السنة، وموضع الاستدلال منه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏باسمك ربى وضعت جنبى، وبك أرفعه‏)‏ وقوله فى حديث حذيفة‏:‏ ‏(‏باسمك أحيا وأموت‏)‏ ومعناه‏:‏ بإقدارك إياى على وضع جنبى وضعته، وبإقدارك إياى على رفعه أرفعه، وبإحيائك أحيا وبإماتتك أموت، فحذف صلى الله عليه وسلم باسمك ربى وضعت جنبى، ثم قال‏:‏ وبك أرفعه، فذكر الاسم مرة، ولم يذكره أخرى، فدل أن معنى قوله‏:‏ باسمك‏.‏

معنى قوله‏:‏ بك؛ إذ لو كان ذكره للاسم يفيد غير ما يفيد ترك ذكره لتخالف المعنيان، ولوجب أن يكون اسمه غيره وذلك محال؛ لأن ذلك يؤدى إلى أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ باسمك وضعت جنبى كقوله‏:‏ بغيرك وضعت جنبى‏.‏

وقوله‏:‏ وباسمك أحيا وأموت‏:‏ بغيرك أحيا وأموت‏.‏

وهذا كفر بالله تعالى‏.‏

ويكون قوله‏:‏ وبك أرفعه، وقوله‏:‏ الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور يراد به الله فيكون بعض الدعاء لله وصرف الأمر فيه إليه، ويكون بعض الدعاء وصرف الأمر فيه إلى غير الله، وهذا كفر صريح لا يخفى، ومما يدل على أن اسم الله هو قوله سبحانه‏:‏ ‏(‏فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 74‏]‏ أى سبح ربك العظيم ونزهه باسمائه الحسنى، ولو كان اسمه غيره لكان الله أمر نبيه بتنزيه معنى هو غير الله وهذا مستحيل، ومما يدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 78‏]‏ فى قراءة من قرأ‏)‏ ذو ‏(‏ وذو وصف الاسم لا شك فيه فإذا قد وصف الاسم بالجلال والإكرام، وهذا خلاف قول القدرية التى تزعم كون كلامه محدثًا، وأنه تعالى لم يزل غير ذى اسم ولا صفة حتى خلق الخلق وخلق كلامه فسماه خلقه بأسماء محدثة وسمى نفسه بمثلها، وهذا بين الفساد بما قدمناه أنه تعالى لا يجوز أن يأمر نبيه بتنزيه غيره‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإن قلتم‏:‏ إن اسم الله هو هو فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن لله تسعة وتسعين اسمًا‏)‏ وكيف تكون الذات الواحدة تسعة وتسعون شيئًا‏؟‏ قالوا‏:‏ وهذا كفر ممن قال به، فبان من هذا الحديث أن اسمه غيره‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه لو كان اسمه غيره لم يأمر نبيه بتنزيه مخلوق غيره على ما قدمناه، ونرجع إلى تأويل الحديث فنقول‏:‏ إن المراد بقوله‏:‏ تسعة وتسعين اسمًا التسمية؛ لأنه فى نفسه واحد والاسم يكون بمعنيين يكون بمعنى المسمى، ويكون بمعنى التسمية التى هى كلامه فالذى بمعنى المسمى يقال فيه‏:‏ هو المسمى، والذى بمعنى التسمية لا يقال فيه‏:‏ هو المسمى، ولا هو غيره، وإنما لم نقل فيه أيضًا‏:‏ هو غيره؛ لأن تسميته لنفسه كلام له ولا يقال فى كلامه أنه غيره‏.‏

ومعنى الترجمة معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏، فأمر بدعائه بها ووصفه لها بالحسنى يقتضى نفى تضمن كل اسم منها نقيض ما يوصف أنه حسن، ونقيض الحسن قبيح لا يجوز على الله، ومعنى هذا أن عالمًا من أسمائه يقتضى علمًا ينفى نقيضه من الجهل وقادرًا يقتضى قدرة تنفى نقيضها من العجز، وحيا يقتضى حياة تنفى ضدها من الموت، وكذلك سائر صفاته كلها ففائدة، كل واحدة منها خلاف فائدة الأخرى، فأمر تعالى عباده بالدعاء بأسمائه كلها لما يتضمن كل اسم منها ويخصه من الفائدة ليجتمع للعباد الداعين له بجميعها فوائد عظيمة، ويكون معبودًا بكل معنى‏.‏

باب مَا يُذْكَرُ فِى الذَّاتِ وَالنُّعُوتِ وَأَسَامِى اللَّهِ

وَقَالَ خُبَيْبٌ‏:‏ وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإلَهِ، فَذَكَرَ الذَّاتَ بِاسْمِهِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةً، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأنْصَارِىُّ، فَأَخْبَرَنِى عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ، أَنَّ ابْنَةَ الْحَارِثِ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا، اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، قَالَ خُبَيْبٌ‏:‏ مَا أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإلَهِ وَإِنْ يَشَأْ عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَقَتَلَهُ ابْنُ الْحَارِثِ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ يَوْمَ أُصِيبُوا‏.‏

اعلم أن أسماء الله تعالى على ثلاث أضرب‏:‏ ضرب منها يرجع إلى ذاته ووجوده فقط لا إلى معنى يزيد على ذلك كقولنا‏:‏ شىء وموجود وذات نفس‏.‏

والضرب الثانى‏:‏ يرجع إلى إثبات معان قائمة به تعالى هى صفات له كقولنا‏:‏ حى وقادر وعالم ومريد، يرجع ذلك كله إلى حياة وقدرة وعلم وإرادة؛ لأجلها كان حيا قادرًا عالمًا مريدًا‏.‏

والضرب الثالث‏:‏ يرجع إلى صفات من صفات أفعاله كقولنا‏:‏ خالق ورزاق ومحيى ومميت، يرجع بذلك إلى خلق ورزق وحياة وموت، وذلك كله فعل له تعالى‏.‏

فأما إثباته ذاتًا وشيئًا ونفسًا فطريقه السمع، وقد سمع النبى صلى الله عليه وسلم قول خبيب ‏(‏وذلك فى ذات الإله‏)‏ فلم ينكره، فصار طريق العلم به التوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم وذاته هو هى، ومعنى قوله فى ذات الإله‏:‏ أى فى دين الله وطاعته، فجميع هذه الأضرب الثلاثة أسماء لله فى الحقيقة كان منها ما يتضمن صفة ترجع إلى ذاته أو إلى فعل من أفعاله أم لا، فكل صفة اسم لله تعالى وليس كل اسم صفة‏.‏

ومذهب أهل السنة أنه محال أن يقال فى صفات ذاته أن كل واحدة منها غير الأخرى، كما استحال القول عندهم بأنها غيره تعالى؛ لأن حد الغيرين ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، ولما لم يجز على شىء من صفاته عدم إحداهما مع وجود سائرها استحال وصفها بالتغاير كما استحال وصفه بأنه غيرها؛ لقيام الدليل على استحالة وجوده تعالى مع عدم صفاته، التى هى حياته وعلمه وقدرته وسائر وجود بعضها مع عدم سائرها كالرزق والإحياء والإماتة، وسائر صفات أفعاله التى تتضمنها أسماء له أطلقها تعالى على نفسه كرازق وخالق ومحيى ومميت وبديع، وما شاكل ذلك، فهذه كلها أسماء له تعالى سمى نفسه بها، وتسميته‏:‏ قوله، وقوله ليس غيره كسائر صفات ذاته، ومتضمن هذه الأسماء متغاير على ما ذكرنا وغير له تعالى لقيام الدليل على وجوده فى أزله مع عدم جميع أفعاله‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ‏}‏ - فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِى كِتَابِهِ، وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ‏:‏ إِنَّ رَحْمَتِى تَغْلِبُ غَضَبِى‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَقُولُ اللَّهُ‏:‏ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى، فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى، وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏، وما ذكر فى الأحاديث من ذكر النفس، فالمراد به إثبات نفس لله، والنفس لفظة تحتمل معانٍ، والمراد بنفسه تعالى ذاته، فنفسه ليس بأمر يزيد عليه، فوجب أن تكون نفسه هي هو، وهذا إجماع، وللنفس وجوه أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها؛ إذ الغرض من الترجمة خلاف ذلك‏.‏

أما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أحد أغير من الله‏)‏‏.‏

فليس هذا موضع الكلام فيه، وسيأتى‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏وضع عنده‏)‏ فعند فى ظاهر اللغة تقتضى أنها للموضع، والله يتعالى عن الحلول فى المواضع؛ لأن ذلك من صفات الأجسام إذ الحالّ فى موضع لا يكون بالحلول فيه بأولى منه بالحلول فى غيره إلا لأمر يخصه حلوله فيه، والحلول فيه عرض من الأعراض يفنى بمجىء حلول آخر يحل به فى غير ذلك المكان‏.‏

والحلول محدث والحوادث لا تليق به تعالى، لدلالتها على حدث من قامت به فوجب صرف ‏(‏عند‏)‏ عن ظاهرها إلى ما يليق به تعالى، وهو أنه أراد صلى الله عليه وسلم إثبات علمه بإثابة من سبق علمه أنه عامل بطاعته، وعقاب من سبق علمه بأنه عامل بمعصيته‏.‏

‏(‏وعند‏)‏ وإن كان وضعها فى اللغة للمكان فقد يتوسع فيها فتجعل لغير المكان كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا عند ظن عبدى بى‏)‏ ولا مكان هناك‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏إن رحمتي تغلب غضبي‏)‏‏.‏

فقد تقدم أن رحمته تعالى إرادته لإثابة المطيعين له وغضبه لعقاب العاصين له، وإذا كان ذلك كذلك كان معنى قوله‏:‏ ‏(‏إن رحمتى تغلب غضبى‏)‏ إن إرادتى ثواب الطائعين لى هى إرادتى ألا أعذبهم‏.‏

وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، فإرادته بهم اليسر هى إرادته ألا يريد بهم العسر، وما كان ما أراد من ذلك بهم، ولم يكن ما لم يرده فعبر صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى بقوله‏:‏ ‏(‏إن رحمتى تغب غضبى‏)‏ وتسبق غضبى، فظاهر قوله يفيد أن رحمته وغضبه معنيان أحدهما غالب للآخر وسابق له، وإذا ثبت أن إرادته واحدة وصفة من صفات ذاته، وأن رحمته وغضبه ليستا بمعنى أكثر من إرادته التى هى متعلقة بكل ما يصح لأكونه مرادًا وجب صرف كلامه عن ظاهره؛ لأن إجراء الكلام على ظاهره يقتضى حدث إرادته لو كانت له إرادات كثيرة متغايرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فى ملأ خير منهم‏)‏ هذا نص من النبى صلى الله عليه وسلم أن الملائكة أفضل من بنى آدم، وهو مذهب جمهور أهل العلم وعلى هذا شواهد من كتاب الله منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 20‏]‏، ولا شك أن الخلود أفضل من الفناء فكذلك الملائكة أفضل من بنى آدم وإلا فلا يصح معنى الكلام‏.‏

وأما وصفه تعالى بأنه يتقرب إلى عبده ووصفه بالتقرب إليه ووصفه بإتيانه هرولة، فإن التقرب والإتيان والمشى والهرولة محتملة للحقيقة والمجاز، وحملها على الحقيقة يقتضى قطع المسافات وتواتى الأجسام، وذلك لا يليق بالله تعالى فاستحال حملها على الحقيقة، ووجب حملها على المجاز؛ لشهرة ذلك فى كلام العرب، فوجب أن يكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرًا وذراعًا وإتيانه ومشيه معناه‏:‏ التقرب إليه بطاعته وأداء مفترضاته، ويكون تقربه تعالى من عبده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتيته هرولة‏)‏ أى‏:‏ أتاه ثوابى مسرعًا‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وإنما مثل القليل من الطاعة بالشبر من الدنو منه والضعف من الكرامة والثواب بالذراع، فجعل ذلك دليلا على مبلغ كرامته لمن أكرم عليه مجاوز حده إلى ما بينه عز وجل‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما معنى قوله‏:‏ ‏(‏إذا ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى‏؟‏‏)‏ قيل‏:‏ معنى ذلك‏:‏ وإذا ذكرنى بقلبه مخفيًا ذلك عن خلقى ذكرته برحمتى وثوابى مخفيًا ذلك عن خلقى حتى لا يطلع عليه أحد منهم، وإذا ذكرنى فى ملأ من عبادى، ذكرته فى ملأ من خلقى أكثر منهم وأطيب‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قيل‏:‏ أى الذكرين أعظم ثوابًا الذكر الذى هو بالقلب، أو الذكر الذى هو باللسان‏؟‏ قيل‏:‏ قد اختلف السلف فى ذلك، فروى عن عائشة أنها قالت‏:‏ لأن أذكر الله فى نفسى أحب إلىَّ أن أذكره بلسانى سبعين مرة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ذكر الله باللسان أفضل‏.‏

روى عن أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ما دام قلب الرجل يذكر الله تعالى فهو فى صلاة، وإن كان فى السوق، وإن تحرك بذلك اللسان والشفتان فهو أعظم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب عندى أن إخفاء النوافل أفضل من ظهورها لمن لم يكن إمامًا يقتدى به، وإن كان فى محفل اجتمع أهله لغير ذكر الله أو فى سوق وذلك أنه أسلم له من الرياء، وقد روينا من حديث سعد بن أبى وقاص عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خير الرزق ما يكفى، وخير الذكر الخفى‏)‏ ولمن كان بالخلاء أن يذكر الله بقلبه ولسانه؛ لأن شغل جارحتين بما يرضى الله تعالى أفضل من شغل جارحة واحدة، وكذلك شغل ثلاث جوارح أفضل من شغل جارحتين، وكلما زاد فهو أفضل إن شاء الله تعالى‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏

- فيه‏:‏ جَابِر، لَمَّا نَزَلَتْ على النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَعُوذُ بِوَجْهِكَ‏)‏، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ‏(‏، قَالَ عليه السّلام‏:‏ ‏(‏أَعُوذُ بِوَجْهِكَ‏)‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ‏(‏، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَذَا أَيْسَرُ‏)‏‏.‏

استدلاله من هذه الآية والحديث على أن لله تعالى وجهًا هو صفة ذاته لا يقال‏:‏ هو هو، ولا هو غيره بخلاف قول المعتزلة، ومحال أن يقال‏:‏ هو جارحة كالذى نعلمه من الوجوه، كما لا يقال‏:‏ هو تعالى فاعل وحى وعالم، كالفاعلين والأحياء والعلماء الذين نشاهدهم، وإذا استحال قياسه على المشاهدين فالحكم له بحكمهم مع مشاركتهم له فى التسمية كذلك يستحيل الحكم لوجهه الذى هو صفة ذاته بحكم الوجوه التى نشاهدها، وإنما لم يجز أن يقال‏:‏ إن وجهه جارحة لاستحالة وصفه بالجوارح لما فيها من أثر الصنعة، ولم يقل فى وجهه أنه هو لاستحالة كونه تعالى وجهًا، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يقال‏:‏ يا وجه، اغفر لى، ولم يجز أن يكون وجهه غيره؛ لاستحالة مفارقته له بزمان أو مكان أو عدم أو وجود، فثبت أن له وجهًا لا كالوجوه؛ لأنه ليس كمثله شىء‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏

يعنِى‏:‏ تُغَذَّى، وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا‏}‏ - فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِىٍّ إِلا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الأعْوَرَ الْكَذَّابَ، إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ‏)‏‏.‏

استدلاله من هذه الآية والحديث على أن لله صفة سماها عينًا ليست هو ولا غيره، وليست كالجوارح المعقولة بيننا؛ لقيام الدليل على استحالة وصفه بأنه ذو جوارح وأعضاء‏.‏

خلافًا لما تقوله المجسمة من أنه جسمٌ لا كالأجسام، واستدلوا على ذلك بهذه الآيات كما استدلوا بالآيات المتضمنة لمعنى الوجه واليدين، ووصفه لنفسه بالإتيان والمجئ والهرولة فى حديث الرسول، وذلك كله باطل وكفر من متأوله؛ لقيام الدليل على تساوى الأجسام فى دلائل الحدث القائمة بها واستحالة كونه من جنس المحدثات، إذْ المحدث إنما كان محدثًا من حيث هو متعلق بمحدث أحدثه، وجعله بالوجود أولى منه بالعدم‏.‏

فإن قالوا‏:‏ الدليل على صحة ما نذهب إليه من أنه تعالى جسم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله ليس بأعور، وإشارته إلى عينه بيده، وأن المسيح الدجال أعور عينه اليمنى‏)‏ ففى إشارته إلى عينه بيمينه تنبيه منه على أن عينه كسائر الأعين‏.‏

قلنا‏:‏ تقدم فى دليلنا استحالة كونه جسمًا؛ لاستحالة كونه محدثًا، وإذا صح ذلك وجب صرف قوله صلى الله عليه وسلم وإشارته إلى عينه إلى معنى يليق به تعالى وهو نفى النقائص والعور منه، وأنه ليس كمن لا يرى ولا يبصر، بل هو منتف عنه جميع النقائص والآفات التى هى أضداد السمع والبصر وسائر صفات ذاته التى يستحيل وصفه بأضدادها؛ إذ الموصوف بها تارة وأضدادها أخرى محدث مربوب، لدلالة قيام الحوادث به على محدثه‏.‏

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 24‏]‏

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، أَنَّهُمْ أَصَابُوا سَبَايَا فِى غَزْوَةِ بَنِى الْمُصْطَلِقِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِهِنَّ، وَلا يَحْمِلْنَ، فَسَأَلُوا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ مَنْ هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

وقال أَبُو سَعِيد مرة، عن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلا اللَّهُ خَالِقُهَا‏)‏‏.‏

الكلام فى معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْخَالِقُ ‏(‏من وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون بمعنى المبدع والمنشىء لأعيان المخلوقات، وهذا معنى لا يشاركه فيه أحد من خلقه، لم يزل الله مسميًا لنفسه خالقًا ورازقًا على معنى أنه سيخلق وسيرزق، لا على معنى أنه خلق الخلق فى أزله لاستحالة قدم الخلق‏.‏

والثانى‏:‏ أن يكون الخلق بمعنى التصوير، وهذا أمر يصح مشاركة الخلق فيه له، فالخلق المذكور فى هذا الباب بمعنى الإبداع والاختراع لأعيان السموات والأرض، والخلق بمعنى التصوير فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏، أى تصور لا تخترع ومنه قول الشاعر‏:‏

ولأنت تفرى ما خلقت *** وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى

باب قَوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَجْمَعُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ، فَيَقُولُونَ‏:‏ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ‏:‏ يَا آدَمُ، أَمَا تَرَى النَّاسَ‏؟‏ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَىْءٍ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكَ وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُ‏:‏ لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ‏:‏ لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطَايَاهُ الَّتِى أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى، عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ‏:‏ لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِى أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ‏:‏ لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِى، فَأَنْطَلِقُ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّى، فَيُؤْذَنُ لِى عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى، ثُمَّ يُقَالُ لِى‏:‏ ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ، سَاجِدًا، فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى، ثُمَّ يُقَالُ‏:‏ ارْفَعْ مُحَمَّدُ، ن وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى، بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا رَبِّى، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِى، ثُمَّ يُقَالُ‏:‏ ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّى بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعْ، فَيَحُدُّ لِى حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ‏:‏ يَا رَبِّ، مَا بَقِىَ فِى النَّارِ إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنَ الْخَيْرِ ذَرَّةً‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَدُ اللَّهِ مَلأى، لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ‏:‏ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ‏؟‏ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِى يَدِهِ، وَقَالَ‏:‏ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الأخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّه يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأرْضَين، فَإِنَّهُ لَم يغض مَا فِى يده، وَقَالَ‏:‏ عرشه عَلى الْماء وَبِيَدِهِ الأخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِيّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأرْضَين، وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ أَنَا الْمَلِكُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏يَقْبِضُ اللَّهُ الأرْضَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّد، ُ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْخَلائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 92‏]‏‏.‏

وقال مرة‏:‏ فَضَحِكَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ‏.‏

استدلاله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏، وسائر أحاديث الباب على إثبات يدين الله هما صفتان من صفات ذاته ليستا بجارحتين بخلاف قول المجثمة المثبتة أنهما جارحتان وخلاف قول القدرية النفاة لصفات ذاته، ثم إذا لم يجز أن يقال‏:‏ إنهما جارحتان لم يجز أن يقال‏:‏ إنهما قدرتان، ولا إنهما نعمتان؛ لأنهما لو كانتا قدرتين لفسد ذلك من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الأمة أجمعت من بين نافٍ لصفات ذاته، وبين مثبت لها أن لها تعالى ليس له قدرتان بل له قدرة واحدة فى قول المثبتة، ولا قدرة له فى قول النافية لصفاته؛ لأنهم يعتقدون كونه قادرًا لنفسه لا بقدرة والوجه الآخر أن الله تعالى قال لإبليس‏:‏ ‏(‏مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏، قال إبليس مجيبًا له‏:‏ أنا خير منه‏.‏

فأخبر بالعلة التى من أجلها لم يسجد، وأخبره تعالى بالعلة التى لها أوجب عليه السجود، وهو أن خلقه بيديه، فلو كانت اليد القدرة التى خلق آدم بها وبها خلق إبليس لم يكن لاحتجاجه تعالى عليه بأن خلقه بما يوجب عليه السجود معنى؛ إذ إبليس مشارك لآدم فيما خلقه به تعالى من قدرته، ولم يعجز إبليس بأن يقول له‏:‏ أى رب، وأى فضل له علىّ وأنا خلقتنى بقدرتك كما خلقته‏؟‏ ولم يعدل إبليس عن هذا الجواب إلى أن يقول‏:‏ أنا خير منه؛ لأنه خلقه من نار وخلق آدم من طين، فعدول إبليس عن هذا الاحتجاج مع وضوحه دليل على أن آدم خصه الله تعالى من خلقه بيديه بما لم يخص به إبليس‏.‏

وكيف يسوغ للقدرية القول بأن اليد هنا القدرة مع نفيهم للقدرة‏؟‏ وظاهر الآية مع هذا يقتضى يدين، فينبغى على الظاهر إثبات قدرتين، وذلك خلاف لأمة‏.‏

ولا يجوز أن يكون المراد باليدين نعمتين لاستحالة خلق المخلوق بمخلوق مثله؛ لأن النعم مخلوقة كلها وإذا استحال كونهما جارحتين، وكونهما نعمتين، وكونهما قدرتين ثبت أنهما يدان صفتان لا كالأيدى والجوارح المعروفة عندنا، اختص آدم بأن خلقه بهما من بين سائر خلقه تكريمًا له وتشريفًا‏.‏

وفى هذا الحديث دليل على إثبات شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته خلافًا لقول من أنكرها من المعتزلة والقدرية والخوارج، وهذا الحديث فى غاية الصحة والقوة تلقاه المسلمون بالقبول إلى أن حدث أهل العناد والرد لسنن الرسول، وفى كتاب الله تعالى ما يدل على صحة الشفاعة قوله تعالى إخبارًا عن الكفار؛ إذ قيل لهم‏:‏ ‏(‏مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 42- 47‏]‏، فأخبروا عن أنفسهم بالعلل التى من أجلها سلكوا فى سقر، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 48‏]‏‏.‏

زجرًا لأمثالهم من الكافرين وترغيبًا للمؤمنين فى الإيمان لتحصل لهم به شفاعة الشافعين، وهذا دليل قاطع على ثبوت الشفاعة‏.‏

فإن عارض الشفاعة معارض بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل نفسه بحديدة عذب بها فى نار جهنم خالدًا، ومن تحسى سمًا‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قيل له‏:‏ يمكن الجمع بين هذا الحديث، وحديث الشفاعة بوجوه صحاح‏:‏ فيجوز أن يكون فيمن قتل نفسه وأنفذ الله عليه الوعيد بأن خلده فى النار مدة أكثر من مدة من خرج بالشفاعة، ثم خرج من النار بعد ذلك مدة بشفاعة النبى صلى الله عليه وسلم بما فى قلبه من الإيمان المنافى للكفر؛ لأن الخلود الأبدى الدائم إنما يكون فى الكفار الجاحدين وما جاء فى كتاب الله من ذكر الخلود للمؤمنين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 93‏]‏، فإنما يراد بالتخليد تطويل المدة عليه فى العذاب ولا يقتضى التأبيد كما يقتضى خلود الكافرين، ويحتمل أن يكون تأويل الحديث من قتل نفسه على وجه الاستحلال والردة فجزاؤه ما ذكر فى الحديث؛ لأن فاعل ذلك كافر لا محالة، ويشهد لهذا ما قاله قبيصة فى البخارى فى تأويل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فسحقًا سحقًا‏)‏‏.‏

قال‏:‏ هو من المرتدين‏.‏

وقد سلمت طائفة من المعتزلة شفاعة الرسول على الأمة لها ولشهادة ظواهر كتاب الله لها، فقالوا‏:‏ تجوز شفاعته صلى الله عليه وسلم للتائب من الكبائر، ولمن أتى صغيرة مع اجتنابه الكبائر أو مؤمن لا ذنب له لتائب، وهذا كله فاسد على أصولهم لاعتقادهم أن الله يستحيل منه تعذيب التائب من كبيرته أو فاعل الصغائر إذا اجتنب الكبائر، أو تأخير ما استحق الذى لا ذنب له من الثواب؛ لأنه لو عذب من ذكرنا وأخر ثواب الآخر ولم يوف التائب والمجتنب للكبائر مع فعله الصغائر ثوابه على أعماله، لكان ذلك خارجًا عن الحكمة وظالمًا، وذلك من صفات المخلوقين‏.‏

وإذا كان هذا أصلهم، فإثباتهم الشفاعة على هذا الوجه لا معنى له فبطل قولهم ولزمهم الشفاعة على الوجه الذى تقول به أهل السنة والحق، وهذا بين والحمد لله‏.‏

وذكر الأنبياء صلى الله عليه وسلم فى حديث الشفاعة لخطاياهم، فإن الناس اختلفوا هل يجوز وقوع الذنوب منهم‏؟‏ فأجمعت الأمة على أنهم معصومون فى الرسالة، وأنه لا تقع منهم الكبائر، واختلفوا فى جواز الصغائر عليهم فأطبقت المعتزلة والخوارج على أنه لا يجوز وقوعها منهم، وزعموا أن الرسل لا يجوز أن تقع منهم ما ينفر الناس عنهم وأنهم معصومون من ذلك‏.‏

وهذا باطل لقيام الدليل مع التنزيل وحديث الرسول‏:‏ ‏(‏أنه ليس كل ذنب كفرًا‏)‏‏.‏

وقولهم‏:‏ إن البارى تجب عليه عصمة الأنبياء، عليهم السلام، من الذنوب فلا ينفر الناس عنهم بمواقعهم لها هو فاسد بخلاف القرآن له، وذلك أن الله تعالى قد أنزل كتابه وفيه متشابه مع سابق علمه أنه سيكون ذلك سببًا لكفر قوم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 101‏]‏ فكان التبديل الذى هو النسخ سببًا لكفرهم كما كان إنزاله متشابهًا سببًا لكفرهم، وقال أهل السنة‏:‏ جائز وقوع الصغائر من الأنبياء، واحتجوا بقوله تعالى مخاطبًا لرسوله‏:‏ ‏(‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ فأضاف إليه الذنب، وقد ذكر الله فى كتابه ذنوب الأنبياء فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏، وقال نوح لربه‏:‏ ‏(‏إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 45‏]‏، فسأله أن ينجيه، وقد كان تقدم إليه تعالى فقال‏:‏ ‏(‏وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 37‏]‏، وقال إبراهيم‏:‏ ‏(‏وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 82‏]‏، وفى كتاب الله تعالى من ذكر خطايا الأنبياء ما لا خفاء به، وقد تقدم الاحتجاج فى هذه المسألة فى كتاب الدعاء فى باب قول النبى‏:‏ ‏(‏أللهم اغفر لى ما تقدم وتأخر‏)‏ ما لم أذكره هاهنا‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ ما معنى قول آدم‏:‏ ولكن ائتوا نوحًا؛ فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض‏.‏

وقد تقدم آدم قبله‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن آدم لم يكن رسولا؛ لأن الرسول يقتضى مرسلا إليه فى وقت الإرسال وهو أهبط إلى الأرض وليس فيها أحد‏.‏

فإن قيل‏:‏ لما تناسل منه ولده وجب أن يكون رسولا إليهم‏؟‏ قيل‏:‏ إنما أهبط صلى الله عليه وسلم إلى الأرض وقد علمه الله أمر دينه وما يلزمه من طاعة ربه فلما حدث ولده بعده حملهم على دينه، وما هو عليه من شريعة ربه، كما أن الواحد منا إذا ولد له ولد يحمله على سنته وطريقته، ولا يستحق بذلك أن يسمى رسولا، وإنما سمى نوح رسولا؛ لأنه بعث إلى قوم كفار ليدعهم إلى الإيمان‏.‏

وأما حديث الإصبع فإنه لما لم تصح أن تكون جارحة لما قدمنا من إبطال التجسيم فتأويله ما قال أبو الحسن الأشعرى‏:‏ من أن هذا وشبهه مما أثبته الرسول لله ووصفه به راجع إلى أنه صفة ذات لا يجوز تحديدها ولا تكييفها‏.‏

وقال أبو بكر بن فورك‏:‏ يجوز أن يكون الإصبع خلقًا لله يخلقه يحمله ما حملت الإصبع، ويحتمل أن يكون المراد بالإصبع‏:‏ إذا أراد الإخبار عن جريان قدرته عليه فذكر معظم المخلوقات، وأخبر عن قدرة الله على جميعها معظمًا لشأن الرب تعالى فى قدرته وسلطانه، فضحك رسول الله كالمتعجب منه أنه يستعظم ذلك فى قدرته، وأنه ليسير فى جنب ما يقدر عليه، ولذلك قرأ عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، أى ليس قدره فى القدرة على ما يخلق على الحد الذى ينتهى إليه الوهم ويحيط به الحد والحصر؛ لأنه تعالى يقدر على إمساك جميع مخلوقاته على غير شىء كما هى اليوم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا يغيضها‏)‏ أى‏:‏ لا ينقصها‏.‏

وقال أبو زيد‏:‏ غاض ثمن السلعة أى‏:‏ نقص، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَغِيضَ الْمَاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ سحاء‏.‏

يقال‏:‏ سح المطر والدمع وغيرهما سحوحًا وسحا‏:‏ انصب وسال‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا أحد أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ‏)‏

- فيه‏:‏ الْمُغِيرَةِ، قَالَ‏:‏ قَالَ سَعْد‏:‏ لَوْ رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرسول صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ‏)‏‏.‏

وقال عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ‏:‏ ‏(‏لا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ‏)‏‏.‏

اختلفت ألفاظ هذا الحديث فروى ابن مسعود، عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا أحد أغير من الله‏)‏ ذكره فى آخر كتاب النكاح، وفى رواية عبيد الله، ورواية ابن مسعود مبينة أن لفظ الشخص موضوع موضع أحد على أنه من باب المستثنى من غير جنسه وصفته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 157‏]‏، وليس الظن من نوع العلم بوجه، وأجمعت الأمة على أن الله لا يجوز أن يوصف بأنه شخص؛ لأن التوقيف لم يرد به، وقد منعت المجسمة من إطلاق الشخص عليه مع قولهم‏:‏ إنه جسم‏.‏

وأحد لفظ موضوع للأشتراك بين الله تعالى وبين خلقه، وقد نص الله على تسمية نفسه فقال‏:‏ ‏(‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏، وقد تقدم فى كتاب النكاح فى باب الغيرة، معنى الغيرة من الله أنها معنى‏:‏ الزجر عن الفواحش والتحريم لها، ومعنى الحديث‏:‏ أن الأشخاص الموصوفة بالغيرة لا تبلغ غيرتها غيرة الله وإن لم يكن شخصًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا أحد أحب إليه المدحة من الله‏)‏ فالمحبة من الله تعالى للمدحة‏:‏ إرادته من عباده طاعته وتنزيهه والثناء عليه؛ ليجازيهم على ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لا أحد أحب إليه العذر من الله‏)‏ فمعناه ما ذكر فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 25‏]‏، فالعذر فى هذا الحديث‏:‏ التوبة والإنابة‏.‏

باب قوله‏:‏ ‏(‏قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏

فَسَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ شَيْئًا، وَسَمَّى النَّبِىُّ عليه السَّلام الْقُرْآنَ شَيْئًا، وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 88‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ‏:‏ ‏(‏أَمَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَىْءٌ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا‏.‏

قال عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة‏:‏ إنما سمى الله نفسه شيئًا إثباتًا للوجود ونفيًا للعدم، وكذلك أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه فلم يتسم بالشئ ولم يجعل الشىء من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شىء أكبر الأشياء، إثباتًا للوجود ونفيًا للعدم، وتكذيبًا للزنادقة والدهرية ومن أنكر ربوبيته من سائر الأمم فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، فدل على نفسه أنه شىء لا كالأشياء لعلمه السابق أن جهمًا وبشرًا ومن وافقهما سيلحدون فى أسمائه ويشبهون على خلقه ويدخلونه وكلامه فى الأشياء المخلوقة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، فأخرج نفسه وكلامه وصفاته عن الأشياء المخلوقة بهذا الخبر تكذيبًا لمن ألحد فى كتابه، وشبهه بخلقه‏.‏

ثم عدد أسماءه فى كتابه فلم يتسم بالشىء، ولم يجعله من أسمائه فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لله تسعة وتسعون اسمًا‏)‏ ثم ذكر كلامه كما ذكر نفسه ودل عليه بما دل على نفسه ليعلم الخلق أنه صفة من صفات ذاته فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، فذم الله اليهود حين نفت أن تكون التوراة شيئًا، وقال‏:‏ ‏(‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏، فدل أن الوحى شىء بالمعنى، والذم لمن جحد أن كلامه شىء، فكل صفة من صفاته باسم الشىء، وإنما أظهره باسم الهدى والنور والكتاب، ولم يقل من أنزل الشىء الذى جاء به موسى‏.‏

قال غيره‏:‏ وتسمية الله نفسه بشىء، يرد قول من زعم من أهل البدع لا يجوز أن يسمى الله بشىء وهو قول الناشىء ونظراته، وقولهم خلاف ما نص الله عليه فى كتابه وهو القائل‏:‏ شىء إثبات موجود، ولا شىء نفى‏.‏

فبان أن المعدوم ليس بشىء خلافًا لقول المعتزلة من أن المعدمات أشياء وأعيان على ما تكون عليه فى الوجود، وهذا قول يقتضى بقائله إلى قدم العالم ونفى الحدث والمحدث؛ لأن المعدومات إذا كانت على ما تكون عليه فى الوجود أعيانًا لم تكن لقدرة الله على خلقها وحدثها تعلق، وهذا كفر ممن قال به‏.‏

باب ‏{‏وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 129‏]‏

قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏(‏اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏‏:‏ ارْتَفَعَ،‏)‏ فَسَوَّاهُنَّ‏}‏‏.‏

خَلَقَهُنَّ‏.‏

وقال مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏(‏اسْتَوَى ‏(‏عَلا عَلَى الْعَرْشِ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏الْمَجِيدُ ‏(‏الْكَرِيمُ، وَ‏)‏ الْوَدُودُ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 14‏]‏ الْحَبِيبُ، يُقَالُ‏:‏ ‏(‏حَمِيدٌ مَجِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 73‏]‏ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ مَحْمُودٌ مِنْ حَمِدَ‏.‏

- فيه‏:‏ عِمْرَان، قَالَ‏:‏ إِنِّى عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِى تَمِيمٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِى تَمِيمٍ‏)‏، قَالُوا‏:‏ بَشَّرْتَنَا، فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اقْبَلُوا الْبُشْرَى، يَا أَهْلَ الْيَمَنِ‏)‏، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ، قَالُوا‏:‏ قَبِلْنَا جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِى الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأمْرِ مَا كَانَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ اللَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، وَكَتَبَ فِى الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَمِينَ اللَّهِ مَلأى‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث ‏(‏وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو، فَجَعَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏اتَّقِ اللَّهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ‏)‏، وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ‏:‏ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِى اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ‏:‏ إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، هَاجَرَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا‏)‏، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو ذَرّ، دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِىّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِى أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهَا تَذْهَبُ تَسْتَأْذِنُ فِى السُّجُودِ، يُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا‏:‏ ارْجِعِى مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا‏)‏، ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏ذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا ‏(‏فِى قِرَاءةِ عَبْدِاللَّهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ زَيْد، أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ خُزَيْمَةَ، أَوْ أَبِى خُزَيْمَةَ الأنْصَارِىِّ، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةٌ، يعنِى‏)‏ وَهُو رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ‏:‏ ‏(‏لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَلِيمُ الْحَلِيمُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ، وَرَبُّ الأرْضِ، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏النَّاسُ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ‏)‏‏.‏

- وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ‏)‏‏.‏

غرضه فى هذا الباب إثبات حديث العرش بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُو رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 129‏]‏، وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش‏)‏ فوصفه تعالى بأنه مربوب كسائر المخلوقات ووصفه صلى الله عليه وسلم بأنه ذو أبعاض وأجزاء منها ما سمى قائمة، والمتبعض والمتجزئ لا محالة جسم، والجسم مخلوق، لقيام دلائل الحدث به من التأليف خلافًا لما تقوله الفلاسفة أن العرش هو الصانع الخالق‏.‏

وأما الاستواء فاختلف الناس فى معناه‏:‏ فقالت المعتزلة‏:‏ إنه بمعنى الاستيلاء والقهر والغلبة، واحتجوا بقول الشاعر‏:‏

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

بمعنى‏:‏ قهر وغلب، ثم اختلف من سواهم فى العبارة عن الاستواء‏.‏

فقال أبو العالية‏:‏ استوى‏:‏ ارتفع‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ استوى‏:‏ علا‏.‏

وقال غيرهما‏:‏ استوى‏:‏ استقر‏.‏

فأما قول من جعل الاستواء بمعنى القهر والاستيلاء فقول فاسد؛ لأن الله تعالى لم يزل قاهرًا غالبًا مستوليًا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى ‏(‏يقتضى استفتاح هذا الوصف واستحقاقه بعد أن لم يكن، كما أن المذكور فى البيت إنما حصل له هذا الوصف بعد أن لم يكن، وتشبيههم أحد الاستواءين بالآخر غير صحيح، ومؤد إلى أنه تعالى كان مغالبًا فى ملكه، وهذا منتف عن الله؛ لأن الله تعالى هو الغالب لجميع خلقه، وأما من قال تأويله‏:‏ استقر‏.‏

فقول فاسد أيضًا؛ لأن الاستقرار من صفات الأجسام، وأما قول من قال‏:‏ تأويله‏:‏ ارتفع‏.‏

فنقول مرغوب عنه لما فى ظاهره من إيهام الانتقال من سفل إلى علو، وذلك لا يليق بالله، وأما قول من قال‏:‏ علا‏.‏

فهو صحيح وهو مذهب أهل السنة والحق‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما ألزمته فى ارتفع مثله يلزم فى علا‏.‏

قيل‏:‏ الفرق بينهما أن الله وصف نفسه بالعلو بقوله‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏، فوصف نفسه بالتعالى والتعالى من صفات الذات، ولم يصف نفسه بالارتفاع‏.‏

وقال غيره‏:‏ الاستواء ينصرف فى لسان العرب إلى ثلاثة أوجه‏:‏ فالوجه الأول‏:‏ قوله تعالى فى ركوب الأنعام‏:‏ ‏(‏ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏، فهذا الاستواء بمعنى الحلول، وهو منتف عن الله تعالى لأن الحلول يدل على التحديد والتناهى، فبطل أن يكون حلاً على العرش لهذا الوجه‏.‏

والوجه الثانى‏:‏ الاستواء بمعنى الملك للشىء والقدرة عليه كما قال بعض الأعراب، وسئل عن الاستواء فقال‏:‏ خضع له ما فى السموات وما فى الأرض، ودان له كل شىء وذل، كما نقول للملك إذا دانت له البلاد بالطاعة‏:‏ قد استوت له البلاد‏.‏

والوجه الثالث‏:‏ الاستواء بمعنى التمام للشىء والفراغ منه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏، فالاستواء فى هذا الموضع‏:‏ التمام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏، أراد التمام للخلق كله، وإنما قصد بذكر العرش؛ لأنه أعظم الأشياء، ولا يدل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏ أنه حال عليه، وإنما أخبر عن العرش خاصة أنه على الماء ولم يخبر عن نفسه أنه جعله للحلول، لأن هذا كان يكون حاجة منه إليه، وإنما جعله ليعبد به ملائكته فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏ الآية‏.‏

وكذلك تعبد الخلق بحج بيته الحرام ولم يسمه بيته، بمعنى أنه سكنه وإنما سماه بيته بأنه الخالق له والمالك، وكذلك العرش سماه عرشه؛ لأنه مالكه والله تعالى ليس لأوليته حد ولا منتهى، وقد كان فى أزليته وحده ولا عرش معه سبحانه وتعالى، ثم اختلف أهل السنة‏:‏ هل الاستواء صفة ذات أو صفة فعل‏؟‏ فمن قال هو بمعنى علا جعله صفة ذات، وأن الله تعالى لم يزل مستويًا بمعنى أنه لم يزل عاليًا‏.‏

ومن قال‏:‏ إنه صفة فعل قال‏:‏ إن الله تعالى فعل فعلاً سماه استواء على عرشه لا أن ذلك الفعل قائم بذاته تعالى لاستحالة قيام الحوادث به‏.‏

وأما قول بنى تميم للنبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بشرتنا فأعطنا‏)‏ فإنما قالوه جريًا على عاداتهم فى أن البشرى إنما كانت تستعمل فى فوائد الدنيا‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث عمران أن السؤال عن مبادئ الأشياء والبحث عنها جائز فى الشريعة وجائز للعالم أن يجيب السائل عنها بما انتهى إليه علمه فيها إذا كان تثبيتًا للإيمان وأما إن خشى من السائل إيهام شك أو تقصير فهم، فلا يجيب فيه ولينهه عن ذلك، ويزجره‏.‏

وقول عمران‏:‏ ‏(‏وددت أن ناقتى ذهبت‏)‏، ولم أقم فيه دليل على جواز إضاعة المال فى طلب العلم بل فى مسألة منه‏.‏

قال غيره‏:‏ وأما قوله‏:‏ ‏(‏يمين الله ملأى‏)‏ ففيه إثبات اليمين صفة ذات الله تعالى لا صفة فعل، وليست بجارحة لما تقدم قبل هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ملأى‏)‏ ليس حلول المال فيها؛ لأن ذلك من صفات الأجسام وإنما هو إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن أن ما يقدر عليه من النعم وإرزاق عباده لا غاية له ولا نفاذ، لقيام الديل على تعلق وجوب قدرته بما لا نهاية له من مقدوراته؛ لأنه لو تعلقت قدرته متناهية لكان ذلك نقصًا لا يليق به‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏فإن حقًا على الله أن يدخله الجنة‏)‏ ففيه تعلق للمعتزلة والقدرية القائلين بأن واجب عليه الوفاء لعبده الطائع بأجر عمله، وأنه لو أخره عنه فى الآخرة كان ظلمًا له‏.‏

هذا متقرر عندهم فى العقول، قالوا‏:‏ وجاءت السنة بتأكيد ما فى العقول من ذلك‏.‏

وقولهم فاسد، ومذهب أهل السنة أن لله تعالى أن يعذب الطائعين من عباده وينعم على الكافرين، غير أن الله تعالى أخبرنا فى كتابه وعلى لسان رسوله أنه لا يعذب إلا من كفر به، ومن وافاه بكبيرة ممن شاء لله تعذيبه عليها‏.‏

فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن حقًا على الله أن يدخلها الجنة‏)‏‏.‏

ليس على أن معنى ذلك واجب عليه؛ لأن واجبًا يقتضى موجبًا له عليه والله تعالى ليس فوقه آمر ولا ناه يوجب عليه ما يلزمه المطالبة به، وإنما معناه‏:‏ إنجاز ما وعد به من فعل ما ذكر فى الحديث؛ لأن وعده تعالى عبده على فعل تقدم إعلامه قبل فعله، ووعده خبر ولا يصح منه تعالى إخلاف عبده ما وعده لقيام الدليل على أن الصدق من صفات ذاته، فعبر صلى الله عليه وسلم فى هذا المعنى بقوله‏:‏ ‏(‏فإن حقا على الله أن يدخله الجنة‏)‏ بمعنى‏:‏ أنه يستحيل عليه إخلاف ما وعد عبده على عمله‏.‏

وأما استئذان الشمس فى السجود، فالاستئذان قول لها، والله على كل شىء قدير، فيمكن أن يخلق الله فيها حياة توجد القول عندها فتقبل الأمر والنهى؛ لأن الله قادر على إحياء الجماد والموت، وأعلم صلى الله عليه وسلم أن طلوعها من مغربها شرط من أشراط الساعة‏.‏